يكتب الدكتور عبد اللطيف المناوي أن مصر، وسط ضغوط سياسية ودبلوماسية كثيفة تحيط بمستقبل قطاع غزة بعد الحرب، وجّهت رسائل حاسمة لا تقبل التأويل، تؤكد فيها وجود خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها في التعامل مع القضية الفلسطينية، وترفض بشكل قاطع أي عبث إسرائيلي أو «هندسة سياسية» لمستقبل غزة. لا تنبع هذه الرسائل من انفعال عابر أو حسابات لحظة، بل تعكس رؤية استراتيجية تراكمت عبر عقود من انخراط القاهرة في الملف الفلسطيني، وإدراك عميق لتداعيات أي حلول مبتورة أو مشوهة.

 

تبرز عرب نيوز تبرز كيف تتأسس هذه الرؤية على وعي مصري بأن الصراع لا يدور حول ترتيبات إدارية أو أمنية مؤقتة، بل حول تعريف جوهر القضية الفلسطينية نفسها: هل هي قضية شعب وأرض ودولة، أم مجرد ملف أمني–إنساني يجري تفكيكه وإدارته.

 

وحدة الأرض الفلسطينية خط أحمر

 

تحدد القاهرة خطين أحمرين بوضوح. يتمثل الأول في رفض فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية سياسيًا أو إداريًا أو أمنيًا. ينطلق هذا الموقف من منطق سياسي وقانوني صريح يرى أن قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة يستحيل دون وحدة جغرافية وسياسية بين شطريها. يقود أي تعامل مع غزة ككيان منفصل إلى هدم فكرة الدولة الفلسطينية من أساسها، وتحويلها إلى جزر معزولة بلا سيادة حقيقية.

 

تؤكد التجربة التاريخية، من منظور مصري، أن الفصل لا يكون إجراءً إداريًا مؤقتًا، بل سياسة مقصودة لترسيخ واقع دائم. لذلك تنظر القاهرة بقلق بالغ إلى الطروحات التي تتحدث عن «ترتيبات خاصة لغزة» أو «نموذج حكم مختلف» أو «مرحلة انتقالية طويلة» لا ترتبط سياسيًا وزمنيًا بمسار واضح لإنهاء الاحتلال في الضفة الغربية. ترى مصر في هذا المسار مكافأة لسياسات فرض الأمر الواقع، وفتحًا لباب إدارة غزة ككيان منزوع السيادة، محاصر اقتصاديًا ومقيد أمنيًا، بينما تواصل المستوطنات التهام الضفة الغربية.

 

رفض تقسيم غزة تحت أي مسمى

 

يمثل الخط الأحمر الثاني رفض أي شكل من أشكال تقسيم قطاع غزة نفسه. لا يقتصر الرفض على التقسيم المعلن، بل يشمل أيضًا الصيغ الرمادية التي تطرح تحت عناوين مثل «الترتيبات الأمنية» أو «المناطق العازلة» أو «مناطق السيطرة المؤقتة». ترى القاهرة أن هذه الصيغ تحمل مخاطر استراتيجية جسيمة.

 

أول هذه المخاطر تكريس منطق الكانتونات، وتحويل القطاع إلى رقع منفصلة تخضع لسلطات أمنية متعددة، بما يفرغ أي سلطة فلسطينية مركزية من قدرتها على الحكم الفعلي. الخطر الثاني يتمثل في شرعنة وجود أمني خارجي دائم، إسرائيلي أو دولي، بما يعني استمرار الاحتلال بأدوات جديدة ومسميات أقل استفزازًا للرأي العام الدولي. أما الخطر الثالث فيكمن في تسييس الأزمة الإنسانية، عبر إدارة المساعدات وإعادة الإعمار وفق خرائط نفوذ لا وفق احتياجات السكان، ما يعمّق الانقسام الاجتماعي ويزرع بذور صراعات داخلية مستقبلية.

 

من هذا المنطلق، ترى مصر أن أي تقسيم لغزة، مهما وُصف بالمؤقت أو التقني، سرعان ما يتحول إلى واقع دائم يعيد إنتاج الصراع بدل احتوائه.

 

الدور الدولي وحدوده

 

يتصدر الجدل حول «اليوم التالي» في غزة مقترح نشر قوة دولية للاستقرار أو دعم السلام. هنا تطرح مصر رؤية دقيقة: ترحب بدور دولي داعم للسلام، لكنها ترفض قوة تحل محل الفلسطينيين. تحصر القاهرة مهمة أي قوة استقرار في مراقبة وقف إطلاق النار، وحماية المدنيين، ودعم استقرار مؤقت، دون أن تتحول إلى سلطة حكم أو أداة لفرض حلول سياسية أو غطاء لاستمرار السيطرة الأمنية الإسرائيلية.

 

تشدد القاهرة على أن أي وجود دولي يجب أن يكون مؤقتًا، محدود الصلاحيات، ومرتبطًا بمسار سياسي واضح يعيد الاعتبار لدور السلطة الفلسطينية بدل إقصائها. تنبع هذه الصرامة من وعي بتجارب دولية سابقة تحولت فيها قوات «حفظ السلام» إلى آليات لتجميد الصراعات لا حلها.

 

لا تخفي مصر تعرضها لضغوط إقليمية ودولية لقبول صيغ «مرنة» أو «واقعية» لمستقبل غزة، لكنها تتعامل مع القضية من منظور أوسع من مجرد إنهاء حرب أو تثبيت هدنة. يتقدم الأمن القومي المصري على رأس الاعتبارات، إذ ترى القاهرة أن تفكيك غزة أو إضعاف بنيتها السياسية يخلق فراغات أمنية خطرة على حدودها ويضاعف المخاطر في سيناء والمنطقة. يضاف إلى ذلك عامل الاستقرار الإقليمي، والمسؤولية التاريخية التي تدرك مصر أن التفريط فيها سيُسجل ضدها في ذاكرة المنطقة.

 

في المحصلة، لا تقدم القاهرة نفسها وصيًا على غزة، ولا تسعى لملء فراغ سياسي أو أمني. تختصر مصر موقفها في معادلة واضحة: غزة جزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية، لا تقسيم ولا فصل ولا حلول هندسية ملتوية، دور دولي داعم لا بديل عن الفلسطينيين، ومسار سياسي واضح، لا إدارة دائمة للأزمة.

https://www.arabnews.com/node/2627776